صراعات المؤتمر الوطني- هل هي نهاية الحزب الحاكم السابق في السودان؟

المؤلف: د. ياسر محجوب الحسين09.27.2025
صراعات المؤتمر الوطني- هل هي نهاية الحزب الحاكم السابق في السودان؟

في خضم الأزمة السودانية الطاحنة التي عصفت بالبلاد وألقت بظلالها القاتمة على كافة مناحي الحياة، شهدت الساحة السياسية السودانية في الأسابيع القليلة الماضية تحركات محمومة ومفاوضات مكثفة جرت داخل أروقة حزب المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم سابقًا والذي كان يرأسه الرئيس المعزول عمر البشير.

وبينما عبر المتشككون عن قلقهم حيال التوقيت المثير للجدل، مؤكدين أنه غير مناسب على الإطلاق، رأى المتفائلون والطامحون، والذين ضاقوا ذرعًا بالانتظار، أن اللحظة الراهنة تمثل فرصة ذهبية لا تعوض للظهور مجددًا على الساحة السياسية واستعادة النفوذ المفقود، وذلك بعد فترة عصيبة هي الأسوأ في تاريخ الحزب، والتي بدأت مع سقوط النظام في شهر أبريل من العام 2019.

وفي هذا الجو السياسي الملبد بالغيوم والمضطرب، بدأت محاولات حثيثة لإعادة تنظيم الصفوف ورصّها، وإحياء النشاط السياسي للحزب، وقد تكللت هذه المساعي بالنجاح في عقد مؤتمر مجلس شورى الحزب، وكان الهدف الرئيس من هذا المؤتمر هو انتخاب رئيس جديد للحزب. ومما زاد الأمر إثارة، أن هذا الحراك تضمن الاستماع إلى تسجيل صوتي للرئيس المعزول عمر البشير من محبسه الحالي، وذلك حسب تصريحات أدلى بها آخر وزير إعلام في النظام السابق.

هذه الخطوة الجريئة تنطوي على أحد احتمالين لا ثالث لهما: إما أن الظروف السياسية قد تهيأت ونضجت بما يكفي للسماح للحزب بالظهور العلني مرة أخرى، أو أن هذا القرار قد اتخذ على عجل واندفاع، مدفوعًا بصراعات داخلية محتدمة تتسابق فيها الأجنحة المختلفة والمتنافسة لفرض أجنداتها السياسية داخل أروقة الحزب.

إن الذي أسقط نظام الرئيس البشير لم تكن تلك المظاهرات الحاشدة التي طالبت بتحسين الأوضاع الاقتصادية المتردية، وإنما كانت أسباب السقوط نابعة من داخل النظام نفسه، فصراعات الأجنحة المتفاقمة كانت بمثابة القاعدة الصلبة للإخفاقات المتتالية التي طالت مفاصل الدولة الحيوية، وبالضرورة مفاصل الحزب نفسه، فقد كان التناحر بين قيادات الحزب شديدًا.

ولعل الزلزال الأول الذي هز أركان الحزب كان في العام 1999، والذي أحدثته ما عُرف حينها بـ "المفاصلة"، حيث انقسم الحزب إلى حزبين رئيسيين: "المؤتمر الوطني" بزعامة الرئيس البشير، و"المؤتمر الشعبي" بزعامة الراحل حسن الترابي، ثم شيئًا فشيئًا بدأت قبضة النظام على السلطة تتلاشى، ثم توالت الانشقاقات داخل حزب السلطة، ففي العام 2013 انسلخ القيادي البارز في الحزب غازي صلاح الدين، وشكّل ما عُرف بـ "حركة الإصلاح الآن"، هذا بالإضافة إلى إبعاد رموز الحزب تباعًا من السلطة، ومراكز صنع القرار.

وبسبب هيمنة الاستئثار بالسلطة بين القيادات، فقد انزلق الحزب إلى مستنقع الانشقاقات المتتالية، الأمر الذي شكل وصمة عار في جبين المشروع الفكري لحكم البلاد، لا سيما ما أعقب ذلك من أحداث مؤسفة، وملاحقات قضائية، وملاسنات حادة ذهبت بكل بريق للمشروع، وقد تبين فيما بعد أن الخلافات التنظيمية لم تكن سوى مظاهر سطحية لداء دفين استشرى في نفوس معظم تلك القيادات.

إن الصراع الأخير الذي تجلى في انتخاب رئيس جديد للحزب يبدو وكأنه قفزة في الظلام؛ نظرًا للتحديات الهائلة التي تواجه الحزب، والدولة على حد سواء، وبدت نظرة المتخوفين أقرب إلى الصواب؛ إذ تبين أن الحزب لم يستخلص العبر من دروس الماضي القريب، حيث يعيد اليوم المتنفذون فيه استخدام ذات الأدوات السياسية القديمة التي أدت إلى انهيار سلطته.

وربما استند المتعجلون وأصحاب الأجندات الخاصة إلى التحولات السياسية، والعسكرية الأخيرة، بدءًا من فشل حكومة عبدالله حمدوك، وحاضنته السياسية المتمثلة في قوى الحرية والتغيير (قحت) في إدارة المرحلة الانتقالية الحساسة، ثم بعد ذلك اندلاع الحرب المدمرة الجارية الآن، والجرائم البشعة التي ترتكبها ميليشيا الدعم السريع في حق المواطنين العزل، حيث أدت كل هذه العوامل إلى حدوث نوع من المقارنة لصالح النظام السابق، لا سيما في مجالات: الأمن، والاستقرار، وحتى الوضع الاقتصادي، مما أدى إلى ارتفاع شعبية النظام السابق، وترحيب شريحة واسعة من الناس بعودته.

ولعل ذلك ما يفسر ردة الفعل المتراخية، أو الأقل حدة من المتوقع، من جانب قيادة الدولة الحالية على استئناف نشاط الحزب، وقد صرح رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان معلقًا: "بكل أسف، سمعنا في الأسابيع الماضية أن المؤتمر الوطني يريد عقد اجتماع لمجلس الشورى، هذا أمر مرفوض وغير مقبول على الإطلاق".

وأضاف: "لسنا في حاجة إلى أي صراعات جديدة، ولسنا في حاجة إلى أي تشتت في هذه المرحلة الحرجة. لدينا هدف واحد نسعى جاهدين لتحقيقه، ونحن متماسكون وموحدون في سبيل ذلك، وهو هزيمة هؤلاء المتمردين، والقضاء على تمردهم بشكل كامل".

فما هي الدلالات الحقيقية لهذا النشاط السياسي في ظل المناخ العام السائد في السودان، وما هو حجم التحديات الجسيمة التي تواجه الحزب، وما مدى قدرته على التكيف مع المتغيرات الجديدة والمتسارعة، وهل بالفعل تعكس هذه المحاولات للعودة قراءة صحيحة للواقع، أم أنها تمثل مجرد تشبث يائس بالبقاء في الساحة السياسية، وما هو موقع الحركة الإسلامية من كل هذه الأحداث الجارية؟

تطورات مكنت الحزب من استعادة نشاطه

لقد استطاع حزب المؤتمر الوطني، على الرغم من حظره الرسمي بعد سقوط النظام السابق في شهر أبريل من العام 2019، أن يستعيد جزءًا لا يستهان به من نشاطه السياسي، وذلك من خلال سلسلة من التطورات والأحداث التي ساعدت على تعزيز وجوده في الساحة السياسية المتقلبة.

ولعل من أبرز هذه التطورات هو تفكك المشهد السياسي في الفترة التي أعقبت سقوط نظام البشير؛ والانقسامات الحادة والعميقة بين القوى السياسية والمدنية التي اختطفت الحراك الشعبي المناهض للحكومة آنذاك، بالإضافة إلى التوترات المستمرة بين المكوِّنين المدني والعسكري في الفترة الانتقالية، وسوء استغلال السلطة السياسية من جانب المكون المدني، واستهداف قطاعات واسعة من الشعب السوداني لمجرد اعتبارهم مؤيدين للنظام السابق، واستخدام سيف العزل السياسي، والطرد التعسفي من الخدمة المدنية، واختلال الأمن العام بعد استهداف جهاز المخابرات الوطني، مع تراجع كبير ومخيف للاقتصاد، وتدهور قيمة العملة الوطنية بشكل غير مسبوق أمام الدولار الأمريكي.

وفي ظل الاستهداف العشوائي للمواطنين الأبرياء، بقيت مراكز القوى التقليدية للحزب ناشطة كالمؤسسات القبلية والدينية، فضلًا عن الاستثمار الذكي في الجموع الغاضبة والساخطة من سياسات حكومة حمدوك، وقد بدا الرجل عاجزًا وضعيفًا أمام هذه التحديات الجسام، إذ كان يفتقر إلى الخبرة والدربة، والإرادة السياسية الصلبة.

كل هذه الإخفاقات المتتالية دفعت بالجيش للقيام بما أسماه "تصحيح المسار السياسي" في شهر أكتوبر من العام 2021، وإقالة حكومة حمدوك، والطلب منه تشكيل حكومة جديدة ذات قاعدة سياسية أوسع، دون أن تحتكرها قوى الحرية والتغيير (قحت)، لكن الأخيرة رفضت مساعدة حمدوك على ذلك؛ لكونه فشل في السابق، ولكون التنازل عن احتكار السلطة الانتقالية كان أمرًا مرفوضًا من جانبها بشكل قاطع، فاستقال حمدوك في نهاية المطاف، وغادر البلاد.

هذا التطور الأخير استفاد منه أنصار النظام السابق في دعم توجهات تحافظ على نفوذهم السابق من خلال ملء الفراغ السياسي الذي تركه الخلاف الكبير بين قوى الحرية والتغيير (قحت) وقيادة الجيش.

لاحقًا ازدادت الفجوة وتعمقت بين الجيش وقوى الحرية والتغيير (قحت) عندما بدأت الأخيرة في استمالة قوات الدعم السريع، والإيحاء لقائدها بأنه من الممكن أن يكون بديلاً للبرهان، بل حتى قواته يمكن أن تحل محل الجيش. وهنا تبين للجيش، بعد أن استعاد جهاز المخابرات الوطني بعض صلاحياته، حجم تورط الأيادي الأجنبية في المشهد السوداني المعقد.

بالإضافة إلى كل ذلك، أدت التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة إلى تغير المصالح الإقليمية والدولية في السودان، مما أتاح فرصًا ذهبية لبعض القوى السياسية المرتبطة بحزب المؤتمر الوطني للتقرب من أطراف فاعلة إقليميًا من أجل تعزيز مكانتهم ونفوذهم.

كل تلك التحولات والتطورات المتلاحقة وفرت مناخًا ملائمًا للحزب لإعادة تنظيم صفوفه على الرغم من استمرار حظره، من خلال عقد أعضاء الحزب اجتماعات سرية وغير رسمية، في إطار إعادة بناء هيكله التنظيمي المتصدع، وهذا ما تجلى بوضوح في محاولات عقد مؤتمر مجلس الشورى الأخير لانتخاب قيادة جديدة.

مع ذلك، فإن الحزب لم يأتِ بجديد من شأنه أن يساهم في تدارك أخطائه الفادحة، والاستفادة من دروس الفترة الماضية، بل اكتفى فقط باستغلال نقاط الضعف في النظام السياسي لإعادة تموضعه على الساحة.

موقع الحركة الإسلامية من الراهن

تعتبر الحركة الإسلامية السودانية الأساس الفكري والتنظيمي الذي انبثق منه حزب المؤتمر الوطني. وقد تم تأسيس الحزب على أساس سياسي وتنفيذي ليكون بمثابة واجهة النظام الحاكم خلال فترة حكم الرئيس البشير، حيث تم توظيفه بشكل ممنهج ليكون أداة فاعلة لتنفيذ مشروع الحركة الإسلامية السياسي داخل أروقة الحكومة.

ولذلك ترى الحركة الإسلامية في نفسها المرجعية الفكرية والأيديولوجية لحزب المؤتمر الوطني، وتعتقد جازمة أنها صاحبة الحق الأصيل في رسم الخط السياسي العام للحزب. ولكن مع تصاعد نفوذ الحزب خلال فترة حكم البشير، وتسارع وتيرة الأحداث، وتنامي الطموحات السياسية لدى قيادات الحزب، وحدوث المفاصلة الشهيرة المشار إليها آنفًا، بدأ الحزب يتحرر تدريجيًا من قبضة الحركة الإسلامية، خاصة مع تركيزه المتزايد على قضايا الحكم والسلطة أكثر من العمل الجاد على تنزيل المشروع الفكري على أرض الواقع، وذلك تحت ضغط بريق السلطة وإغراءاتها.

في أعقاب الزلزال السياسي الثاني الذي ضرب البلاد في شهر أبريل من العام 2019، والذي أطاح بسلطة المؤتمر الوطني من جذورها، اتخذت الحركة الإسلامية خطوات جادة لإعادة هيكلة تنظيمها الداخلي، ولكنها اصطدمت مرة أخرى بمحاولات الحزب الحثيثة لاستعادة دوره المحوري في الساحة السياسية المضطربة، مما أدى إلى توترات حادة بين الطرفين، فذات الأدوات وذات الوسائل القديمة في "صراع الإخوة الأعداء" مضت تحمل معاول الهدم من جديد.

لقد أبدى بعض قادة الحركة الإسلامية انتقادات لاذعة للحزب، محملين إياه المسؤولية الكاملة عن فشل النظام السابق؛ بسبب الفساد المستشري بين بعض قياداته، وسوء إدارة الدولة.

واليوم يقف الصراع في ذات النقطة الخلافية القديمة؛ فالحزب ما زال يحاول جاهدًا أن يصبح المرجعية التنفيذية والسياسية العليا كما كان خلال فترة حكمه المنصرمة، متجاوزًا بذلك دور الحركة الإسلامية التاريخي.

إن القيادات المتصارعة داخل الحزب تسعى جاهدة، في سبيل تحقيق طموحاتها السياسية الجامحة على حساب المؤسسية الراسخة، إلى تهميش دور الحركة الإسلامية وإبقائها في مكان قصي، شِلْوًا ممزقًا يعيش على هامش الفعل السياسي، وفوق ذلك كله يُطلب منها تحمل وزر إخفاقات تجربة حكم امتدت لنحو ثلاثة عقود.

ثم ماذا بعد؟

إن الصراع المحتدم على قيادة حزب المؤتمر الوطني يهدد بقاء الحزب ككيان موحد ومتماسك، ويفقده القدرة على لعب دور سياسي فعال ومؤثر في مستقبل البلاد. فإذا استمرت هذه الخلافات العاصفة دون التوصل إلى حلول مؤسسية جذرية، قد يتحول الحزب إلى قوة هامشية لا وزن لها في المشهد السياسي السوداني المتقلب، أو قد يختفي تمامًا من الساحة السياسية.

ومع اشتداد الصراع وتأججه، تضعف الهياكل التنظيمية للحزب بشكل ملحوظ، حيث تنشأ تيارات وجماعات منفصلة تعمل بمعزل عن القيادة المركزية للحزب. إن ما يؤثر سلبًا على قدرة الحزب على لعب دور سياسي فعال هو فقدان المصداقية أمام الرأي العام، إذ تعكس الخلافات العميقة صورة من الضعف والانقسام، مما يقلل من جاذبية الحزب لدى القاعدة الشعبية، ويضعف بشكل كبير فرصه في استعادة النفوذ السياسي المفقود.

كذلك فإن الانشغال بالصراعات الداخلية يعيق القدرة التنافسية للحزب، أي عدم القدرة على تقديم برامج سياسية مقنعة وجذابة، أو منافسة القوى السياسية الأخرى الصاعدة. فضلًا عن أن هذه الصراعات المتواصلة تجعل من الصعب على الحزب بناء تحالفات قوية مع قوى سياسية أخرى، حيث يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره كيانًا غير مستقر وغير موثوق به.

وإذا لم يتم احتواء هذه الصراعات العبثية في أسرع وقت ممكن، فقد ينقسم الحزب إلى مجموعات أو تيارات متناحرة ومتصارعة، مما سيؤدي حتمًا إلى فقدانه مكانته كقوة سياسية موحدة ومتماسكة.

ولتجنب كل ذلك، يحتاج الحزب إلى إصلاح داخلي شامل وجذري، وإعادة هيكلة قاعدته التنظيمية ورؤيته السياسية المستقبلية. بالإضافة إلى إصلاح العلاقة المتوترة بين الحزب والحركة الإسلامية من خلال إعادة وضعيتها باعتبارها المرجعية الفكرية والمؤسسية للحزب.

وفي ذات الوقت، لا سبيل إلى إصلاح حال الحركة الإسلامية إلا من خلال تحقيق أمر بالغ الأهمية، وهو: الاتجاه نحو الفرد والمجتمع بشكل أكبر، مما يقتضي أن يكون البرنامج الاجتماعي هو البرنامج الأهم والأكثر أولوية في مشروعها للمرحلة المقبلة، على أن يستهدف ذلك النهوض بالفرد باعتباره محورًا أساسيًا للتنمية الشاملة بكل أوجهها.

ولا بد من الاستفادة القصوى من الانتشار الواسع للمساجد وتضاعف أعدادها في كافة أنحاء البلاد، والاستفادة منها باعتبارها مراكز إشعاع فكري واجتماعي وثقافي، ولا بد من اعتماد إستراتيجية جديدة تُعيد للمسجد دوره المفقود في تعزيز الترابط الاجتماعي والتكافل الاقتصادي.

وضمن البرنامج الاجتماعي، تبرز ضرورة ملحة لمواجهة تحدي الإصلاح الاقتصادي؛ من أجل إقامة الاقتصاد على أسس من الإنصاف والعدالة، وتحقيق توازن حقيقي بين من يملك ومن لا يملك.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة